الخميس، 26 يوليو 2018

عن كاظم الساهر .. والفن .. والجمال .. والحب!



إلى أي حد يمكن أن تكون عيوب الشخص مزعجة له؟ على عكس ما يتوقع معظم الناس، فإنني على دراية ووعي كاملين بعيوبي السخيفة. التسويف والتأجيل المستمر أحد أكبر مشاكلي. هذا المقال كان يدور في رأسي كما النحلة منذ أكتوبر 2016! مقال عادي لا تستغرق كتابته نصف ساعة يأخذ قرار تنفيذ كتابته مايقارب السنتين! الموضوع مزعج فعلاً!

عام 1998، أجلس في البيت أنتظر أن يعود بابا من الخارج، دق الباب فهرولت قافزة وفتحت الباب ومددت يدي دون أية كلمة، أخرج من جيبه علبة لشريط كاسيت وأعطاني إياها.
هرولت مرة أخرى إلى غرفتي، وضعت قابس الكهرباء في مكانه في الجدار، أقفلت باب الغرفة بالمفتاح وأخرجت شريط الكاسيت من علبته، العنوان: كاظم الساهر، أنا وليلى. قلبت العلبة لأقرأ عناوين الأغاني في الخلف، الوجه الأول: قصيدة "إلا أنتِ"، آهٍ على آه، موال "أقول الآه"، أشكيك لمين. الوجه الثاني: قصيدة "أنا وليلى"، بالهداوة، أبات مهموم، لعب بيهم لعب.
وضعت الشريط في المسجلة وبدأت أستمع، أكملت الوجه الاول وقلبت شريط الكاسيت وبدأت أغنية "أنا وليلى"، ما يقارب من 13 دقيقة من خليط من المشاعر، اندهاش مع شرود مع دقات قلب متسارعة مع شئ بين الابتسامة والدمع المحبوس.

نعم، كنت في ال12 من عمري ولم أستمع إلى أية أغنية بعد أنا وليلى في الألبوم، كانت تنتهي الأغنية وأعيدها من البداية لا أتذكر كم مرة ولكن أتذكر أنني في آخر مرة أعدت الأغنية كنت أغني معها الكلمات عن ظهر قلب. الموسيقى نفسها كانت عالماً آخر من المشاعر النقية المترجمة إلى لحن يُعزف.
جميلة جداً اللغة العربية، تحمل من التعابير والمعاني الكثير مما لاأتصور وجوده في لغات أخرى، لغة تحمل جمالاً في كتابتها وجمالاً  في مفرادتها وعمقاً في معانٍ تجعل من قارئها يطير بجناحين في السماء فما بالك بمن يغنيها؟
بدأت بقراءة أشعار نزار قباني قبل هذا بسنة خلسة، إذ كانت أمي تملك عدة دواوين لنزار وكانت تخبئها وتمنعني من قرائتها بحجة أنها غير مناسبة لسني، ولكن كلمات حسن المرواني كانت في أذني تحمل صدىً مختلفاً ووَقعاً جميلاً استمر لسنين عديدة.
بالطبع كالكثير من الناس، كبرت وكنت أستمع إلى كل ألبومات كاظم الساهر حال صدورها، أسوأ الألبومات لديَ كانت تلك التي لاتحمل قصائداً مغناة. كنت أحس أنه يخذل القصيدة حينما لا يغنيها. كنت أستمع إلى جميع أغانيه وأدمدم في داخلي: ولا واحدة منها ترقى إلى أنا وليلى! وأفكر أنه من الممكن أن المعجزات تحدث مرة واحدة فقط في عمر الإنسان.

إلى أن أتى العام 2003، وصدر ألبوم حافية القدمين، هل عندك شك؟ أجمل أغنية من الممكن أن تحلم أية فتاة في العالم أن تُهدى لها! النغمات الفرحة التي تختلف عن حزن أنا وليلى والشباب المتجدد لصوت وألحان كاظم الساهر وكلمات نزار قباني المبالغ بها والتي تشبه حكايات الجنيات الصغيرات اللاتي يحققن أحلام الفتيات العاديات ويحولهن إلى أميرات متوجات.
توالت الألبومات بعد ذلك، إلى أن صدر الألبوم رقم 25، عام 2016، كتاب الحب. كان كاظم الساهر توقف عن أدهاشي منذ زمن، الجمال الذي تتعود عليه، الأزهار التي تراها كل يوم في طريقك للعمل فتتوقف عن ملاحظة كم رائعة هي!
تلك السلاسة في الألحان والكرم الإلهي الذي يعطي موهبة تأليف كل تلك الألحان المذهلة لشخص يمتلك صوتاً لا يختلف على عظمته اثنين من ذوي العقول المستنيرة.
استمعت إلى الألبوم من اليوتيوب وأنا أقود السيارة عائدة من عملي، كل أغنية أسمعها أرى نفسي لاإراديا أحول نظري إلى مشغل الأغاني لأتأكد أن الأغنية حقيقية! كوني امرأة خطرة، ما هذا الرجل العظيم الذي يغني للنساء قائلا كوني القوة؟! كيف اختار جملة: يارب قلبي لم يعد كافيا لأن من أحبها تعادل الدنيا؟ أغنية وراء الأخرى وأنا أشعر بشئ مختلف في الأغاني هذه المرة، وصلت إلى التحفة المسماة "شؤون صغيرة" وحين وصلت الأغنية إلى منتصفها أوقفت السيارة على جانب الطريق وأكملت الاستماع، لم يكن من الممكن أن تمر هذه الأغنية مرور الكرام، في نفس الدقيقة التي انتهت الأغنية كانت قد احتلت مكانها كأغنيتي المفضلة الجديدة لكاظم والأغنية التي تحركني حتى وأنا أسمعها للمرة الألف بعد المليون! بعدها كنت أفكر مع نفسي لماذا هذا الألبوم مختلف لهذه الدرجة؟ ملئ بالحياة، بالحيوية، الألحان عبقرية لدرجة لاتوصف، تحس بالنضج الفني ممزوجا بشقاوة الأطفال ومشاعر المراهقين مع كل نغمة، ثم قفزت الإجابة إلى رأسي مثل كنغر أسترالي: هذا الرجل يحب!
الحب يفعل المعجزات، الحب من الممكن أن لا يجعلك مرتاحاً أو حتى مستقراً، ولكن من الأكيد أنه سيجعلك مختلفاً، يجعلك تختبر أشياءاً لم تكن حتى تظن أنها موجودة، يجعلك تصدق هواجس الشعراء ويتحرك قلبك مع موسيقى الملحنين، الحب يخلق فناً رائعاً، فناً مليئاً بالجمال، الجمال الذي يجعل هذه الحياة محتملة.
في حب الفن، والموسيقى، والشعر، والكلمات، وكاظم الساهر الذي جعل كل هذا مزيجاً ممكناً يرافقنا في ساعات حياتنا اليومية.