الاثنين، 12 ديسمبر 2011

بغداد ♥






بغداد .. كلمة جميلة حقاً، لطالما اثارت في نفسي شيئاً ما كلما سمعتها او لمحت حروفها على ورقة ما .. لهذه الكلمة نغمة معينة تسحبك معها إلى عالم لا تدري عنه شيئاً .. عالم قد لا يوجد إلا في خيالك الخاص.


بالنسبة لي كلما رنت بغداد في أذني تذكرت هارون الرشيد والخلافة العباسية ربما لارتباطهما ببغداد كونها كانت يوماً عاصمة لدولة منحت العالم انهاراً من العلم والثقافة أغرقت فيما بعد في ابنة بغداد .. دجلة .
جميل أن تحب مدينة لم ترها بعد.. أن تذوب عشقاً في مكان لم تلمحه عيناك حتى الآن. إنه شعور خاص لن يفهمه إلا من أحسه وعايشه وعاش به سنوات طوال . حاولت كثيراً أن أتخيل بغداد إلا أنني وبكل أمانة فشلت فشلاً ذريعاً ، فانت لا تستطيع أن تلبس معنى في حياتك شوراع وأرصفة وأبنية بكل بساطة هادماً تلك اللذة في التتيم بمجهول .. شئ تعرف ماضيه وحاضره وربما تاليه أيضاً لكنك لم تره رأي العين بعد. كلاّ أظن أنني أخطأت .. ليست بغداد شيئاً ، إنها روح .. روحٌ أسكنت بكل ما في الدنيا من تناقضات .. اعتقدت دوماً أن كل مدينة في العالم تزخر بكم كبير من المتناقضات والمدينة ذات الوجه الواحد وهم كبير يشبه المدينة الفاضلة لا يوجد إلا في أخيلة الكتاب وأحلامهم. وكانت بغداد حلمي الأزلي .. ببذخها وشقائها .. بعدلها وجورها .. بجمالها الذي لا قبح فيه.
شردت بعيداً وأنا أتامل المنظر المواجه لنافذة الغرفة الخاصة بي ، لطالما أحببت مشاهدة الشمس وهي تشرق ، إن بزوغ الشمس من مكمنها كل يوم يعطيك امراً واضحاً بوجوب ممارستك الحياة ، فمادامت الشمس تشرق إذاً من المؤكد أنه يوجد ما يستحق أن تحيا لأجله . متفائلة كانوا يصفوني ، لم أعد أدري إن كان التفاؤل ذنباً في هذا الزمن الذي كلما تفاءلت بشئ فيه انقلب حاله أسوأ مما كان عليه . في شرودي رحت أتذكر طريقي الذي أقسمت أن أسيره كي أصل في نهايته إلى مرمى فؤادي والروح التي أقسمت أيضاً أن أهبها كل مايعتمل في نفسي من عواطف وأحاسيس مدى الدهر ، أعتقد أنك عرفتها .. نعم هي بغداد.

أحضرت كرسياً كي أجلس ذاكرتي عليه كعادتي كلما تذكرت أحداثاً مضت في دفتر حياتي .. ولتعودي أيضاً في مشاهدة شروق الشمس جالساً لأن مشهداً كهذا يستحق أن تجلس لتنعم ناظريك به وتتمعن فيه عساك تدرك حينها سراً مقدساً من أسرار هذا الكون حولنا . لو أدركت الجمال الذي يمكن في بزوغ الضوء على زهرة ما وتفتحها فرحاً بهذا الشعاع وزهواً بيوم جديد قد يحمل موتها قطفاً مع عدم مبالاتها بكل ذلك ، لعلمت حينها أن الحب موجود أيضاً وبقوة في تلك الزهور ولهذا استعملها البشر في نقل رسائل عشقهم لعلمهم أنها مليئة بما يريدون إيصاله من مشاعر . معبأة بالفرح أنا .. وتكاد عيني تفيض حزناً ، لطالما أدركت أني متناقضة ، تناقض الكون الدائر حولي .. تناقض الزمن الذي أحيا فيه .. تناقض مدن العالم في وجوهها .. تناقض بغداد إن لاقتني!
إلى أين أعادتني ذكرياتي ؟ عبر أية دهاليز أمشتني ؟ وعبر أية دروب جرجرتني ؟ها أنا ذا أيتها الذكريات أعود إليك كما أفعل دائماً كي أدرك أين أنا الآن ؟ وإلى أين أوصلتني الأيام ؟ وكم بقي لدي من الوقت كي ألاقيها ؟ عشقي الازلي .. بغداد .

قبل يومين سمعتهم قالوا أن بغداد سقطت .. كلا .. علمتني الأيام أن ثمة مدن لا تسقط وأحلام لا تموت .. بغداد لا تستطيع أن تسقط لأن في هذا الكون قوانين لا تتغير تحكم كل ما فيه بمصيرية الوجود . وبغداد ضمن المدن التي ليس لها أن تنحني وإن تظاهرت بذلك ثانية ما تحت وطأة قدر قاس تراها تسخر بابتسامة عريضة من كل هذا العالم خالعةً عنها تظاهرها اللحظي .. مقسمةً لك أنك على حق وأنها حتماً مدينة لا تسقط ولم تسقط ولن تسقط أبد الدهر . طويلٌ كان مشواري .. وطويلٌ الطريق الذي أرى أمامي ، أحس أحياناً أني جديدة بكل ما تحمله الجدة من معاني القرن الواحد والعشرين ، وأحياناً أخرى أحس أني قديمة قدم حضارات العراق . ولدت في العراق ولكني لم أبصره .. أطلقت أولى صرخاتي تحت سمائه وفوق أرضه .. استقبلني شابكاً يده بيد الحياة وهي تهنئني بولوجي بابها بكل ترحاب ، لكني لم أبق في عراقي إلى بلوغي السن الذي يمكنني من خزن ما أرى في ذاكرتي .. خرجت أحبو .. وسأعود راجلة ، خرجت مرغمة .. وسأعود راغبة .. تائبة .. تائقة لتقبيل كل ذرة تراب من هذه الأرض المعشوقة المحبوبة المفتونة بأبنائها.

هناك تعليقان (2):

  1. لا اعرف ماهذا الشعور الغريب ،لكنني كلما تصفحت التاريخ او فتشت في بطون الكتب عن بغداد ، لا اعرف لماذا لا اشعر انها نفس المدينة التي ولدت فيها ؟

    لا اعرف مصدر هذا الشعور ، لكن غالبا ما تكون بغداد التي اعرفها في خيالي تختلف عن ما اراه ، ربما اخفت ملامحها تجاعيد الشوارع و اطلال الابنية وآهات الحروب .. لا اعلم ..

    حتى .. بكيت .. وعانقت دموعي دموع ذاك الداعية "الشقيري" عندما قرأ خاتمة كتاب قديم كتب في بغداد قبل مئات من السنين ..

    ردحذف
  2. لرب نازلةٍ تضيق بها بغداد ..
    ذرعاً وعند الله منها المخرج
    ضاقت فلما استحكمت حلقاتها..
    فرجت وكنت أظنها لا تفرج

    للشافعي -بتصرف- :)

    ردحذف